لم يعد سراً أن فلسطين صارت "صنعة" بعدما اكتشفها عدد من أبنائها، كُتّاباَ ومخرجين ومصممين غرافيين وملحنين وصحافيين والحبل على الجرار. هؤلاء وقد وقعوا في فخ الترميز الذي أنتجته القضية الفلسطينية في المخيلة العربية والغربية، احترفوا تركيب هذه الرموز على بعضها لتشكيل منتوج ثقافي يُحسب فلسطينياً في نهاية المطاف دون أن يكون لفلسطين أو حتى عنها. وإذ تكن هذه التجارب منفصلة عن بعضها البعض إلا أنها تترابط فيما بينها لتشكل ظاهرة من الاستشراق الذاتي، أو لنقل استهلاك الفلسطيني (وليس الإسرائيلي أو الغربي هذه المرة) لفلسطين؛ هذه السلعة الجاهزة المركبة من صور وأنماط الضحية والبطل والكوفية والجدار والحواجز وإلى ما ذلك من "ثوابت" الرمزية الفلسطينية التي يشعر الفنان أو الأديب الفلسطيني بالنقص دونها أو كأنه لا يصير فلسطينياً كاملاً إلا بها. وإذ أتناول في هذه المقالة مثالاً دون غيره، فذلك ليس إلا لتقديم شرح مفصل عن حالة تمثل العديدات مثلها.
[الشريط التسويقي لفيلم عُمَر – إخراج هاني أبو أسعد]
فيلم عُمَر الذي فاز مؤخراً بجائزة أفضل فيلم في "مهرجان دبي السينمائي الدولي"، كان قد وصل إلى فلسطين –مسرح أحداثه- بعد مروره بـ"هيزعة" مهرجانات السينما العالمية مثيراً حوله الجلبة إياها التي ترافق تقريباً كل فيلم عن فلسطين؛ أقول وصل مُحمّلاً بمشاعر متضاربة وأراء متفاوتة نظراً للموضوع الذي يتناوله – أو يظن القائمون عليه أنه يتناوله – ألا وهو العمالة الفلسطينية مع المستعمِر الصهيوني. ويسرد فيلم هاني أبو أسعد (مخرج فيلم "الجنة الآن") قصة ثلاثة شبان فلسطينيين من أحد مخيمات الضفة الغربية هم أمجد وطارق وعمر والمنتمون إلى أحد تنظيمات الكفاح المسلح، حيث يتدربون على تنفيذ عمليات عسكرية بهدف تسديد ضربة لجيش الاحتلال الإسرائيلي. يقوم الثلاثة بالتخطيط والتنفيذ لقتل جندي ببندقية قنص، لتبدأ بعدها الأحداث بالتتالي بحثاً عن القاتل إذ أن واحداً منهم فقط كان من رمى الجندي المقتول بالرصاص. وهنا يدخل موضوع العمالة في القصة حيث تشتبه المخابرات الإسرائيلية بطارق وتلاحقه عن طريق القبض على أحد أصدقائه –بطلنا عُمَر ما غيره- وتخيّره بين الحبس مدى الحياة وبين التعاون معهم للوصول إلى قاتل الجندي. ولكن من الحب ما قتل وتلك هي سيَر الأبطال سيّما في أفلام "الأكشن"، فقد كان الأمر الذي أدى إلى حسم مصير كل واحد من الشبان الثلاثة هي ناديا أخت الشاب المتهم من قبل إسرائيل بأنه قاتل الجندي.. وللبقية تجدون الفيلم في دور السينما المحلية والعالمية في كل زاوية.
ولو أن فيلم عُمَر يطمح لتناول قضية من واقع الحالة السياسية الفلسطينية وعلى الرغم من أن أحداثه تدور في فلسطين، إلا أنه في نهاية المطاف فيلم إثارة ودراما يتحدث عن عصبة من الشبان تخطط لاستعمال السلاح الذي قد يكون موجهاً ضد أي عدو – من تاجر مخدرات إلى سارق سيارات- ويقع البطل في قصة حب وتتشربك القصة، والشرطة كما في كل مكان في العالم، ولن أقول دول "العالم الثالث" فحسب، تلعب على هذا الوتر من أجل خلق انشقاق في صفوف العصابة فترشو وتعد وتتعهد بالامتيازات لمن يساعدها في مهمتها. نقطة.
يرتئي الفيلم تناول قضية العمالة الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي، ولكنه لا يتحدث عن العمالة إلا بما يكفي ليدخلها إلى وصف موقع الأفلام العالمي "IMDb" كثيمة في الفيلم من بين أخرى غيرها يعددها الموقع: التسلق على جدار/اعتقال/مقتل جندي/تعذيب وغيرها؛ مدرجاً الفيلم تحت خانة الدراما والإثارة (Thriller). الفيلم لا يتحدث عن العمالة في سياق خصوصية الحالة الفلسطينية ولا يناقش حتى مركباتها والتعقيدات التي تلف قضية أن يضع مستعمَر يده في يد مستعمرِه ويشارك في استعباد ذاته. وإذ تندر حالة في التاريخ لا تكون العمالة ثالوثاً يضاف إلى ثنائية الاستعمار، وإن تشترك هذه الحالات على تنوعها الزمني والجغرافي بعوامل معينة، فإن لكل حالة خصوصيتها التي تتطلب تناولاً للسمات الخاصة للحالة وذلك لتفادي النزعة الغربية التي تسبغ لوناً واحداً في معرض تحليلها لحالات سياسية واجتماعية تتعلق بمستعمراتها من "القتل على شرف العائلة" إلى "الأمية" مروراً بـ"الفساد" ولا تنتهي عند "العمالة" طبعاً، مفرزة أنماطاً سلوكية شمولية تعزو كل ما يحيطها بسرد واحد خارجي وسطحي وانتهازي فيكون "الشرقي" و"الإفريقي" و"المسلم"، وعادة ما ترد الأسباب إلى أطباع متأصلة في المستعمَر لكي يغسل الاستعمار يديه من دوره المركزي في إنتاج كل هذا.
إلا أن الصادم في عُمَر هو الـ"خفّة غير المحتملة" التي يُقَدَم فيها الإنسان الفلسطيني المنخرط في المقاومة المسلحة للاستعمار، حيث أن عُمَر -بطل الفيلم- الذي اختار هذا الطريق بمحض إرادته، ينتهي به الأمر راجياً سجّانه الإسرائيلي أن يخرجه من السجن راضياً التعامل معه ولو بطريقة مناوِرة، تنتهي بقتله لسجانه بحركة درامية. تتمثل الخفّة بالانتقال بين الوطني والمُسيّس إلى العميل والجاسوس بسلاسة تنتقص لأي تحليل لهذه السيرورة المعقدة في سيكولوجية المستعمَر -وليس الفلسطيني فقط- وفروع البحث والمعرفة عديدة، من مقابلات وأبحاث ميدانية إلى دراسات فكرية سياسية غاب أثرها في الفيلم. وتتبدى سطحية الفيلم في إضافة قصة الحب المشوبة بالتضييقات التي تعاني منها المرأة العربية وذلك لضرب عصفورين بحجر ومضاعفة الإثارة؛ وكما في أفلام الإثارة فقد استعمل القوي (السجّان الصهيوني) قصة الحب هذه للضغط على الضعيف (عُمَر) للتعامل معهم فيرضخ الأخير، وتلك أقدار من بهم ولع. إن الواقع الفلسطيني والروايات التي نسمعها من خلف القضبان تشهد بأنه لو كانت العمالة بدوافعها ونتائجها كما يصورها الفيلم لما بقي فلسطيني واحد في السجون الإسرائيلية إلا وتعامل مع إسرائيل من أجل أن يتحرر.
كما يجرّد الفيلم البشر المحيطين بأبطاله من أدوارهم الحقيقية ويسكتهم وكأنه لا يريد لهم أن يتفوهوا بما لا ينسجم مع "هولووديته"، وأذكر هنا الحلقات الأقرب إلى أي منخرط في صفوف المقاومة المسلحة؛ عائلته وتنظيمه السياسي. فلا نرى عُمَر ولو مرة يتحدث مع والديه أو إخوته رغم أننا نراه يتناول الطعام معهم في البيت. وحتى بعد اعتقاله وإطلاق سراحه بشرط التعامل مع إسرائيل، فإن حواره مع عائلته يتلخص بسؤال إخوته له عما كان يأكل في السجن فيما يبقى الأب والأم صامتين لا دور لهما ولا قول سواء كان اللوم أو التفجع أو التضامن أو التشجيع أو أي نوع من ردود الفعل على هذه التجربة القاسية، ولا حتى الرد على اتهامات المجتمع لابنهم بالتعامل مع إسرائيل. أما التنظيم السياسي فيختفي تماماً عن المشهد ما يتفق مع وصف الشبان بكونهم عصبة لا أصحاب أيديولوجيا ومبادئ قوية تدفعهم نحو طريق محفوف بالمخاطر شائك ومكلف. فوق كل هذا يزيل الفيلم اللهجة الفلسطينية المميزة لمكان الحدث الذي انتقاه، هو أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الواقع في شق فلسطين المحتل عام 1967، فيؤدي الممثلون أدوارهم بلهجتهم الأصلية القادمة معهم من الشق المحتل عام 1948. إن في نزع هذه الصفات تجريد آخر للواقع الفلسطيني الحياتي الغزير السابق للاستعمار والذي يتحداه يومياً عبر الحفاظ على تفاصيله.
وأخشى بأن هذا التجريد وكم الأفواه لا ينبعان فقط من قضية الحبكة الهولوودية فحسب وإنما من الاستسهال الذي بات يميز الفنان والأديب الفلسطيني تجاه ذاته ومعرفته بها، وكأنه بات مجرد مستهلِك للمعرفة التي ينتجها الآخر عنه وليس قائماً على مشروع معرفي مقاوم لكل ضروب الصور هذه، التي لا تفيه وقضيته حقهما سياسياً كان أم اجتماعياً ناهيك عن الإنساني. هكذا، وبدل أن يقوم عُمَر بتقصٍ حقيقي لشخصية العميل والمقاوم والسجين وإبن المخيم الذي يدعي تمثيلها في الفيلم، فإنه يقوم بالرهان على ما يغذي المخيلة الغربية عن الفلسطيني، لتصبح فلسطين مجرد "ديكور" للفيلم كما جاء على لسان مخرجه هاني أبو أسعد. حسبنا الجدار! كم من الصور والقصص نسجت حول الجدار (المبنى ذاته) لكونه الحلقة الأسهل والأكثر جاذبية لتبيين الاستعمار، فغُلّب الحجر على البشر. فها هو عُمَر يؤدي صورة البطل الفلسطيني الذي يتحدى الصعاب متسلقاً الجدار بخفة "سبايدر مان"، فدون ذلك ما كان لعمر أن يكون بطلاً وفلسطينياً بحق. أضيف هنا فقط أن علك قضية الجدار بالصورة النمطية التي أشاعها الفنانون والأدباء الفلسطينيون في إنتاجاتهم قد عملت على حصر فلسطين في ذهن المشاهدَين العربي والغربي، في الحدود الجغرافية التي فرضتها إسرائيل وأوسلو، تلك هي الضفة الغربية، ما يرسّخ كون الاستعمار قائماً في أرض فلسطين المحتلة عام 1967 فحسب!
ولا يهمني من عُمَر المنتوج النهائي بقدر ما تهمني عملية تشكّل الظاهرة الثقافية لشعب مستعمَر، بما في ذلك العناصر المركبة لهذه التجربة – من التفاصيل المادية كالجدار وما شابه وانتهاءاً بالعوامل النفسية التي يشكل فقدانها واحداً من أهم مؤثرات الاستعمار – حيث غالباً ما يُصّوِر الفلسطيني المستعمَر (ذاته) كشيء يقوم بدور الشخصية الرئيسية المبنية على ازدواجية الضحية والجلاد. إن بناء شخصية معدومة الملامح النفسية والإنسانية بمفهومها الحياتي اليومي هو انعكاس لطريقة رؤيتنا لأنفسنا كأناس راضخين للاستعمار وليسوا في مواجهته، كل من مكانه وبصيغته، وبهذا يتم إعادة إنتاج الفلسطيني كمعطًى في فضاء فلسطين المستعمَر؛ الفلسطيني الضحية التي لا حول لها ولا قوة.
لنضع الأمور في نصابها، لا بأس بأن نقول بأن هناك أفلام إثارة وأكشن تصور محلياً مستقاة من المدرسة الهولوودية، التي حج إليها وحلم بها مخرجو وممثلو الأرض قاطبة. لكن هذا شيء، وتسويق هذه على أنها تمثل فلسطين فهو شيء آخر، إذ أن قضية التمويل الفلسطيني الخالص للفيلم التي لوّح بها القائمون عليه، ليست كفيلة وحدها بجعله فيلماً فلسطينيّ المضمون. ولا أقول أن نكون شعباً نكداً يتمسك بالدمار ويقدسه فلا يصنع أفلام أكشن تأهله للمسير على السجاد الأحمر، بل العكس تماماً. لكن إعادة إعمار الفلسطيني الإنسان لذاته هي ليست مشروعاً مؤجلاً يحل بحلول التحرير بل هي الشرط والسبب لتحرير فلسطين الأرض وأصحابها. فإما أن نجعل الإنسان فينا ظرفاً وتفصيلاً طارئين على قضيتنا، وإما أن يصير الإنسان الفلسطيني هو القضية. وما عدا ذلك، فلنعلن الهزيمة وليحمل كل منا قلمه وكاميراته وعوده وريشته ويذهب إلى بيته ليرتاح.